فضاء حر

حين تهرب العدالة من أسوار السجن

يمنات

سنان بيرق

عندما تكون وليّ دمٍ، لا تعود فردًا عاديًا… بل تصير وطنًا مثقلاً بالحزن، ممزقًا بالألم، مرابطًا على بوابة الانتظار، سنواتٍ مديدة. وليّ الدم ليس مجرد صفة قانونية، بل هو قيد يومي على الحلم، وندبة في ذاكرة القلب، لا تندمل إلا بعد القصاص.

أن تكون ابن المقتول، أو والده، أو شقيقه… يعني أن تحمل مع كل شروق شمس مرارة الفقد، وفي كل ليل سؤالًا معلقًا: متى تتحقق العدالة؟ متى يعود الحق إلى نصابه؟ تمضي العمر تشارك المحاكم، وتعبر دهاليز العدالة، تحمل بيدك أوراق القضية، وبقلبك جثة القهر. تستدين، وتنهك، وتفقد، وترهق… كل ذلك من أجل حكمٍ نهائي، واحد، ناصع، يُشفى به الغليل، ويبرد به جمر الانتظار.

ثم، وقبل لحظة التنفيذ… اللحظة التي ظننت أنها ستُعيد لروحك أنفاسها، يُخبرك أحدهم – ببرود – أن القاتل قد هرب. لا، لم يهرب وحده، بل هُرِّب. تسلل من بين أيدي من وُكلوا بحراسته، لا… بل من بين أياديهم مباشرة، وعلى مرأى تواطئهم المفضوح. هُرِّبَ بترتيبٍ دنيء، مع أفرادٍ من أهالي الجناة، وبعلمٍ مشينٍ من الحراسة المكلفة بحماية السجن.

أي قانون يبقى بعد هذا؟ أي عدالة تُروى بعد أن ذُبحت العدالة من الوريد إلى الوريد داخل سور سجن ذمار؟ ثلاثة من القتلة، صدر بحقهم حكم الإعدام، أحكام قضائية قطعية نهائية باتّة، طُعِنَت بها قلوب أولياء الدم حينما سمعوا خبر هروبهم، كأنّ سكاكين جديدة نُحرت بها كرامتهم، بعد أن نُحر أبناؤهم من قبل.

فكيف ستكون حالُ أمّ المقتول؟ تلك التي لم تذق طعم النوم منذ لحظة الفقد، وكانت تنتظر اليوم الذي ترى فيه رقبة القاتل تسقط لتخفّ عن صدرها حرقة السنوات؟ كيف نُخبرها أن القاتل نجا، وأنه صعد السور ضاحكًا، والعدالةُ نائمة؟

وكيف نُقابل والد القتيل، الذي نخرَ الحزنُ عظامه، وشابت روحه قبل شعره، في انتظار يومٍ يُعيد له بعضًا من رجولته المنهوبة؟

ماذا نقول لزوجة المقتول، وهي التي علّقت حياتها على مشنقة العدالة تنتظرها تتحرك، فإذ بها تُخنق؟

وكيف نُحدّث الطفل الصغير، الذي لم يعرف أباه إلا من مقاعد المحكمة، ولم ترسم ذاكرتُه صورةً لوالده إلا من وجه قاتله؟ كيف نخبره أن القاتل الذي أُخبر بأنه سينال جزاءه قد غاب، لا في قبرٍ كما ينبغي، بل في فرارٍ وقحٍ، على يد من يفترض أنهم حرّاس العدالة؟

أي عدالة هذه؟ وأي دستور يحتمل هذه الفاجعة؟

لقد نُسفت شريعة المظلوم، نُسفت كرامة القضاء، نُسف إيمان الناس بعدالة الأحكام، وضُربت هيبة الدولة في الصميم.

أيها السادة، لا عزاء لأولئك الذين وثقوا بالقانون، ولا مواساة لأولياء الدم إلا أن يُحاسَب من خان الأمانة… لا بل يُعاقب بنفس المستوى، لأن الخيانة هنا لا تقل جرمًا عن القتل.

من سهّل الهروب، ومن خان الحراسة، ومن تواطأ مع القتلة، جميعهم شركاء في سفك العدالة، وشركاء في قتل الضحية مرة أخرى.

في مثل هذه اللحظات، لا تُشفى القلوب إلا بإقامة عدالة مضاعفة، ولا يهدأ الغليل إلا بأن يكون خائنُ الأمانة هو عبرةٌ قبل أن يُلاحق الهاربون، فبغير ذلك، لن تبقى للدولة هيبة، ولا للعدالة معنًى.

المأساة ليست فقط في الهروب… بل في هروب كل شيء: الحق، الثقة، الأمن، والضمير.

من حائط الكاتب على الفيسبوك

زر الذهاب إلى الأعلى